خدعنا بمظهره ! في ذكرى السيد مصطفى جمال الدين ، الفقيه الشاعر .

2022-10-24
236

ع.ح.ن

بقلم :الشيخ صادق الحسناوي

قالها انيس منصور أو غيره من أدباء مصر في 1969 عندما اقيم مهرجان الشعر في بغداد وارتقى السيد مصطفى جمال الدين (طاب ثراه ) المنصة بلباسه الديني (عمامته السوداء وجبته) ، بصوته الجهوري وطوله الفارع امتطى صهوة الشعر فقال :

لملم جراحك واعصف ايها الثار
ما بعد عار حزيران لنا عارُ

وخل عنك هدير الحق في اذنٍ
ما عاد فيها سوى النابال هدارُ

وخض لهيب وغى لابد جاحمها
يوماً فإن بريق السلم غرارُ

ان تحرق البغي تجلوا ذُلَّ موقفنا
أو تَحتَرق فطريق الجنة النارُ

كانت تلك القصيدة بعد نكسة حزيران 1967
وربما توقع الحاضرون ان يسمعوا قصيدة كلاسيكية في الرثاء والعويل على غرار مرثيات (الروزخونية) او قراء العزاء فهذا مايوحي به مظهر الشاعر ولباسه لكنهم خدعهم بمظهره وكشف عن شاعر اثبت ان الشعر عراقي كوفي ! ذاك هو مصطفى جمال الدين ، المولود في الناصرية في قرية (المومنين ) والمتوسد ثرى دمشق حيث دفن فيها عقب وفاته في 1997/10/23ليضيف لتلك المقبرة شاهداً آخر على كثرة شواهدها من العراقيين الشاهدين على وحشية سلطة جائرة آلت على نفسها ان تلاحق فرسان الكلمة اينما حلوا ، تلك مقبرة الشهداء في دمشق قرب السيدة زينب عليها السلام ويسميها كثير من العراقيين مقبرة الغرباء لكنها في الواقع ليست مقبرة للغرباء ، يلحظ الداخل اليها انها تضم قبرالشهيد الدكتور علي شريعتي الواقع على يسار الداخل اليها وتضم قبر شاعر العرب الاكبر الجواهري وبالقرب منه قبر المفكر السيد هادي العلوي وزوجته يقابلهم قبر السيد الدكتور مصطفى جمال الدين الشاعر والفقيه ، يفصل بين هذه القبور ممر مزين بالاشجار كأنه يوحي بانشقاق الناس سماطين بين عظماء توسدوا ثرى ريف دمشق وتحولت قبورهم الى معالم حضارية ومزارات قل الا تجد من يقف عليها داعيا وزائراً ومترحماً على هذه الارواح ونادباً حظ وطن شتت ابنائه بين المنافي الطوعية او القهرية ومنهم السيد مصطفى جمال الدين الذي هاجر اوائل الثمانينات الى لندن عبر الكويت ليستقر نهائياً في دمشق .
يوم تشرفت بزيارة السيدة زينب عليها السلام ، لم أتأخر عن زيارة قبور العراقيين هناك وعلى رأسهم جمال الدين والجواهري حيث تفيأت ظل شجرة وارفة الظل قرب ضريح السيد مصطفى وشدت انتباهي شجرة نخيل تضخم جذعها وانعدم ثمرها رغم جمال مظهرها ، ارى هل هي شاهد على الغربة ؟! وجدتها نخلة غريبة في بيئة لانخل فيها ، ربما حاكت غربة فقيدنا مع الفارق في كونها غربة مثمرة لا كغربة تلك النخلة بل كظلال الشجرة وارفة الظل وافرة الثمر !
برع السيد مصطفى جمال الدين شاعراً لم تنسه اجواء الشعر عقيدته فارضى الشعر وارضى المعتقد فيما سطر من القصائد التي منها قصيدته في امير المؤمنين عليه السلام :

أبا حسنٍ وإن أعيا خــيــالــــي
فــقـصَّــرَ دون غـايــتِهِ الـنشيدُ

فليسَ لأنَّ أجـنـحـتــي قــصـارٌ
وأن مثارَ عـاطــفـتـي جـــلــيدُ

وأن هــوىً تــرعرعَ وهوَ بذرٌ
بـظـلّــكــمُ سـيـذبـلُ وهو عـودُ

وأن يــراعــةً غــنَّــتْ هــواها
ستخرسُ حين تزحمُها الرعودُ

ولـكـن كـان مــرمــانـــا سماءً
قــريــبُ مــنـالـهــا أبــداً بـعيدُ

فضلاً عن غيرها ، ومن قصائده الرائعة قصيدته في بغداد وفيها يقول :

بغداد ما اشتبكت عليكِ الاعصرُ
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌ
ودجت عليك ووجه ليلك مقمرُ
وقست عليك الحادثات فراعها
ان احتمالك من أذاها اكبرُ
حتى اذا جُنت سياط عذابها
راحت مواقعها الكريمة تسخرُ
فكأن كِبركِ اذ يسومك تيمرٌ
عنتاً – دلالُك اذ يضمك جعفرُ
وكأن نومك اذ اصيلك هامدٌ
سِنةٌ على الصبح المرفه تخطرُ
وكأن عيدك بعد الف محولةٍ
عيدُ افتتاحك وهو غض مثمرُ
لله انت فأي سرٍّ خالدٍ
أن تسمني وغذاء روحك يُضمرُ
ان تشبعي جوعاً وصدروك ناهدٌ
او تظلمي أُفقاً وفكرك نيرُ
بغداد بالسحر المُندى بالشذى ال
الفواح من حلل الصبا يتقطرُ
بالشاطئ المسحور يحضنه الدجى
فيكاد من حُرقِ الهوى يتنورُ
واذا تهدَّج بالرصافة صوتهُ
جفلت بمصر على صداه الاقصرُ
والان يابغداد يأزف موعدٌ
لك في الخلود قلوبه تتنظرُ
من كل من اعطاك غضّ شبابه
ومضى بذابل عمرهِ يتعثرُ
يترقبونك : والطريق امامهم
جهم المسارب ضيقٌ مُستوعرُ
يبس الزمان وهم على اطرافه
عذب بما تَعدينه مُخضوضرُ
فتعهدي ما يأملون وانعشي
لقياهم فهم بمجدك اجدرُ
رفعوك من قطع القلوب وحقهم
منك الوفاء لهم بما هو اكثرُ

والقصيدة خُط منها بيت على المدخل الخارجي للقبر وهو قوله :
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر
إلا دوت ووريق عمرك أخضر
لكن يد الدهر أسقطت من صدر البيت الاول (الاعصر ) فلم تبق منها غير (الأ…..) وربما لم تسقط اعتباطا فلعلها اشارة الى اشتباكات عدة تشهدها بغداد عبر عصورها المختلفة ، والقبر في داخله يضم الكثير من القصائد المنحوتة والمخطوطة لكن تلك الغرفة كانت مغلقة فلم تحظ بمشاهدة مافيها ، وهو على بساطته تحفة فنية يجب الا تفارق دمشق وان تبقى شاهداً على عراقيين ابدعوا اينما حلوا ومزارا لمتذوقي الشعر والادب والفقاهة ولاينبغي الاصغاء لنقل رفات السيد مصطفى جمال الدين او غيره الى العراق فهؤلاء فوق الجغرافيا وفوق الحدود وهم طيور لايمكن قص اجنحتها بعدما حلقت بعيدا في سماء المجد والخلود

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان